﴿ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ ﴾
للإمام ابن القيم الجوزية رحمه الله تعالى
إن القلوب جُبلت على حُب من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها، ولا أحدٌ أعظمَ إحساناً من الله سبحانه؛ فإن إحسانه على عبده في كل نَفَس ولحظة، وهو يتقلّب في إحسانه في جميع أحواله، ولا سبيل له إلى ضبط أجناس هذا الإحسان فضلاً عن أنواعه أو عن أفراده، ويكفي أن من بعض أنواعه: نعمة النّفَس التي لا تكاد تخطر ببال العبد وله عليه في كل يوم وليلة أربعة وعشرون ألف نعمة، فإنه يتنفس في اليوم والليلة أربعة وعشرين ألف نفس، وكل نفس نعمة منه سبحانه، فإذا كان أدنى نعمة عليه في كل يوم أربعة وعشرين ألف نعمة فما الظن بما فوق ذلك وأعظم منه، {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا}.
هذا إلى ما يصرف عنه من المضرات، وأنواع الأذى التي تقصده، ولعلّها توازن النعم في الكثرة والعبد لا شعور له بأكثرها أصلاً، والله سبحانه يكلؤه منها بالليل والنهار كما قال تعالى: {قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ} ... فهو سبحانه مُنعمٌ عليهم بكلاءتهم وحفظهم وحراستهم مما يؤذيهم بالليل والنهار وحده لا حافظ لهم غيره، هذا مع غناه التام عنهم، وفقرهم التام إليه من كل وجه، وفي بعض الآثار يقول تعالى: ( أنا الجواد ومن أعظم مني جودا وكرما أبيت أكلأ عبادي في مضاجعهم وهم يبارزونني بالعظائم ) وفي الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى السحاب قال: (( هذه روايا الأرض يسوقها الله إلى قوم لا يذكرونه ولا يعبدونه )) وفي الصحيحين عنه أنه قال: (( لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله؛ إنهم ليجعلون له الولد وهو يرزقهم ويعافيهم )). وفي بعض الآثار يقول الله: ( ابن آدم خيري إليك نازل، وشرك إلي صاعد، كم أتحبب إليك بالنعم وأنا غني عنك، وكم تتبغض إلي بالمعاصي وأنت فقير إلي، ولا يزال الملك الكريم يعرج إليّ منك بعمل قبيح ).
ولو لم يكن من تحببه إلى عباده وإحسانه إليهم وبره بهم إلا أنه خلق لهم ما في السموات والأرض، وما في الدنيا والآخرة، ثم أهّلهم، وكرّمهم، وأرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه، وشرع لهم شرائعه، وأذن لهم في مناجاته كل وقت أرادوا، وكتب لهم بكل حسنة يعملونها عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وكتب لهم بالسيئة واحدة فإن تابوا منها محاها وأثبت مكانها حسنة، وإذا بلغت ذنوب أحدهم عنان السماء ثم استغفره غفر له، ولو لقيه بِقُرابِ الأرض خطايا ثم لقيه بالتوحيد لا يشرك به شيئاً لأتاه بقرابها مغفرة، وشرع لهم التوبة الهادمة للذنوب فوفقهم لفعلها ثم قبلها منهم، وشرع لهم الحج الذي يهدم ما قبله فوفقهم لفعله وكفر عنهم سيئاتهم به، وكذلك ما شرعه لهم من الطاعات والقربات، وهو الذي أمرهم بها وخلقها لهم وأعطاهم إياها ورتب عليها جزاءها فمنه السبب ومنه الجزاء ومنه التوفيق ومنه العطاء أولاً وآخراً، وهم محل إحسانه كلِّه منه أولاً وآخراً، أعطى عبده المال وقال: تقرب بهذا إليّ أقبله منك، فالعبد له، والمال له، والثواب منه، فهو المعطي أولاً وآخراً؛ فكيف لا يُحب من هذا شأنه، وكيف لا يستحي العبد أن يصرف شيئا من محبته إلى غيره، ومن أولى بالحمد والثناء والمحبة منه، ومن أولى بالكرم والجود والإحسان منه، فسبحانه وبحمده لا إله إلا هو العزيز الحكيم.
ويفرح سبحانه وتعالى بتوبة أحدهم إذا تاب إليه أعظم فرح وأكمله، ويكفر عنه ذنوبه ويوجب له محبته بالتوبة وهو الذي ألهمه إياها ووفقه لها وأعانه عليها.
وملأ سبحانه وتعالى سماواته من ملائكته واستعملهم في الاستغفار لأهل الأرض، واستعمل حملة العرش منهم في الدعاء لعباده المؤمنين والاستغفار لذنوبهم ووقايتهم عذاب الجحيم والشفاعة إليه بإذنه أن يدخلهم جناته، فانظر إلى هذه العناية، وهذا الإحسان، وهذا التحنن والعطف والتحبب إلى العباد واللطف التام بهم، ومع هذا كله بعد أن أرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه، وتعرف إليهم بأسمائه وصفاته وآلائه؛ ينزِل كل ليلة إلى سماء الدنيا يسأل عنهم، ويستعرض حوائجهم بنفسه، ويدعوهم إلى سؤاله؛ فيدعو مسيئهم إلى التوبة، ومريضهم إلى أن يسأله أن يشفيه، وفقيرهم إلى أن يسأله غناه، وذا حاجتهم يسأله قضاءها كل ليلة، ويدعوهم إلى التوبة وقد حاربوه وعذبوا أولياءه وأحرقوهم بالنار؛ قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} وقال بعض السلف: انظروا إلى كرمه؛ كيف عذبوا أولياءه، وحرقوهم بالنار ثم هو يدعوهم إلى التوبة.
فهذا الباب يدخل منه كل أحد إلى محبته سبحانه وتعالى، فإن نعمته على عباده مشهودة لهم يتقلبون فيها على عدد الأنفاس واللحظات، وقد روي في بعض الأحاديث مرفوعا: ( أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه، وأحبوني بحب الله ) فهذه محبة تنشأ من مطالعة المنن ورؤية النعم والآلاء، وكلما سافر القلب فيها ازدادت محبته وتأكدت، ولا نهاية لها فيقف سفر القلب عندها؛ بل كلما ازداد فيها نظراً ازداد فيها اعتبارا وعجزاً عن ضبط القليل منها، فيستدل بما عرفه على مالم يعرفه، والله سبحانه وتعالى دعا عباده إليه من هذا الباب، حتى إذا دخلوا منه دُعوا من الباب الآخر وهو باب الأسماء والصفات الذي إنما يدخل منه إليه خواص عباده وأوليائه، وهو باب المحبين حقا الذي لا يدخل منه غيرهم، ولا يشبع من معرفته أحد منهم، بل كلما بدا له منه علم ازداد شوقا ومحبة وظمأ، فإذا انضم داعي الإحسان والإنعام إلى داعي الكمال والجمال لم يتخلف عن محبة من هذا شأنه إلا أردأ القلوب وأخبثها وأشدها نقصا وأبعدها من كل خير؛ فإن الله فطر القلوب على محبة المحسن الكامل في أوصافه وأخلاقه، وإذا كانت هذه فطرة الله التي فطر عليها قلوب عباده فمن المعلوم أنه لا أحد أعظم إحسانا منه سبحانه وتعالى، ولا شيء أكمل منه، ولا أجمل؛ فكل كمال وجمال في المخلوق من آثار صنعه سبحانه وتعالى، وهو الذي لا يُحد كماله، ولا يوصف جلاله وجماله، ولا يحصي أحد من خلقه ثناء عليه بجميل صفاته وعظيم إحسانه وبديع أفعاله، بل هو كما أثنى على نفسه وإذا كان الكمال محبوبا لذاته ونفسه وجب أن يكون الله هو المحبوب لذاته وصفاته، إذ لا شيء أكمل منه، وكل اسم من أسمائه وصفة من صفاته وأفعاله دالة عليها، فهو المحبوب المحمود على كل ما فعل وعلى كل ما أمر إذ ليس في أفعاله عبث ولا في أوامره سفه، بل أفعاله كلها لا تخرج عن الحكمة والمصلحة والعدل والفضل والرحمة، وكل واحد من ذلك يستوجب الحمد والثناء والمحبة عليه، وكلامه كله صدق وعدل، وجزاؤه كله فضل وعدل، فإنه إن أعطى فبفضله ورحمته ونعمته، وإن منع أو عاقب فبعدله وحكمته.
ولا يُتصور نشر هذا المقام حق تصوره، فضلا عن أن يوفاه حقه، فأعْرف خلقه به وأحبهم له يقول: ( لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ) ولو شهد بقلبه صفة واحدة من أوصاف كماله لاستدعت منه المحبة التامة عليها، وهل مع المحبين محبة إلا من آثار صفات كماله؛ فإنهم لم يروه في هذه الدار وإنما وصل إليهم العلم بآثار صفاته وآثار صنعه فاستدلوا بما علموه على ما غاب، فلو شاهدوه ورأوا جلاله وجماله وكماله سبحانه وتعالى لكان لهم في حبه شأن آخر، وإنما تفاوتت منازلهم ومراتبهم في محبته على حسب تفاوت مراتبهم في معرفته والعلم به، فأعرفهم بالله أشدهم حبا له، ولهذا كانت رسله أعظم الناس حبا له، والخليلان [إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام] من بينهم أعظمهم حبا، وأعرف الأمة أشدهم له حبا، ولهذا كان المنكرون لحبه من أجهل الخلق به؛ فإنهم منكرون لحقيقة إلهيته، ولخلة الخليلين، ولفطرة الله التي فطر الله عباده عليها، ولو رجعوا إلى قلوبهم لوجدوا حبه فيها ووجدوا معتقدهم نفي محبتهم يكذب فطرهم، وإنما بعثت الرسل بتكميل هذه الفطرة وإعادة ما فسد منها إلى الحالة الأولى التي فطرت عليها، وإنما دُعوا إلى القيام بحقوقها ومراعاتها لئلا تفسد وتنتقل عما خلقت له، وهل الأوامر والنواهي إلا خدم وتوابع ومكملات ومصلحات لهذه الفطرة، وهل خلق الله سبحانه وتعالى خلقه إلا لعبادته التي هي: غاية محبته والذل له، وهل هُيىء الإنسان إلا لها؛ كما قيل:
قد هيئوك لأمر لو فطنت له ... فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
وهل في الوجود محبة حق غير باطلة إلا محبته سبحانه؛ فإن كل محبة متعلقة بغيره فباطلة زائلة ببطلان متعلقها، وأما محبته سبحانه فهو الحق الذي لا يزول ولا يبطل، وكل ما سوى الله باطل، ومحبة الباطل باطل، ولكن إذا كانت النفوس صغارا كانت محبوباتها على قدرها، وأما النفوس الكبار الشريفة فإنها تبذل حبها لأجلّ الأشياء وأشرفها.
والمقصود أن العبد إذا اعتبر كل كمال في الوجود وجده من آثار كماله سبحانه؛ فهو دال على كمال مبدعه، كما أن كل علم في الوجود فمن آثار علمه، وكل قدرة فمن آثار قدرته، ونسبة الكمالات الموجودة في العالم العلوي والسفلي إلى كماله كنسبة علوم الخلق وقدرهم وقواهم وحياتهم إلى عمله سبحانه وقدرته وقوته وحياته، فإذاً لا نسبة أصلا بين كمالات العالم وكمال الله سبحانه، فيجب أن لا يكون بين محبته ومحبه غيره من الموجودات له، بل يكون حب العبد له أعظم من حبه لكل شيء بما لا نسبة بينهما، ولهذا قال تعالى {وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ} فالمؤمنون أشد حباً لربهم ومعبودهم من كل محب لكل محبوب.
هذا مقتضى عقد الأيمان الذي لا يتم إلا به، وليست هذه المسألة من المسائل التي للعبد عنها غنى، أو منها بد؛ كدقائق العلم والمسائل التي يختص بها بعض الناس دون بعض، بل هذه مسألة تُفرض على العبد، وهي أصل عقد الإيمان الذي لا يدخل فيه الداخل إلا بها، ولا فلاح للعبد ولا نجاة له من عذاب الله إلا بها، فليشتغل بها العبد أو ليعرض عنها، ومن لم يتحقق بها علماً وحالاً وعملاً لم يتحقق بشهادة أن لا إله إلا الله؛ فإنها سرها وحقيقتها ومعناها، وإن أبى ذلك الجاحدون، وقصر عن علمه الجاهلون، فإن الإله: هو المحبوب المعبود الذي تألهه القلوب بحبها، وتخضع له، وتذل له، وتخافه وترجوه، وتنيب إليه في شدائدها، وتدعوه في مهماتها، وتتوكل عليه في مصالحها، وتلجأ إليه، وتطمئن بذكره، وتسكن إلى حبه، وليس ذلك إلا الله وحده، ولهذا كانت لا إله إلا الله أصدق الكلام، وكان أهلها أهل الله وحزبه، والمنكرون لها أعداؤه وأهل غضبه ونقمته، فهذه المسألة: قطب رحى الدين الذي عليه مداره وإذا صحت صحِ بها كل مسألة وحال وذوق، وإذا لم يصححها العبد فالفساد لازم له في علومه وأعماله وأحواله وأقواله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.