أن هذه الملابسات في عمومها هي الملابسات التي ظلت الدعوةالإسلامية وأصحابها
يواجهونها - مع اختلاف يسير - على مر العصور وكر الدهور ; من أعدائها وأوليائها علي
السواء . مما يجعل هذه التوجيهات القرآنية هي دستور هذه الدعوة الخالدة , ويبث في هذه
النصوص حياة تتجدد لمواجهة كل عصر وكل طور; ويرفعها معالم للطريق أمام الأمة المسلمة
تهتدي بها في طريقها الطويل الشاق , بين العداوات المتعددة المظاهر المتوحدة الطبيعة ...
وهذا هو الإعجاز يتبدى جانب من جوانبه في هذه السمة الثابتة المميزة في كل نص قرآني.
لقدتمت هجرة الرسول [صلي الله عليه وسلم] إلى المدينة بعد تمهيد ثابت وإعداد محكم . تمت تحت تأثيرظروف حتمت هذه الهجرة ; وجعلتها
إجراء ضروريا لسير هذه الدعوة في الخط المرسوم الذي قدره الله لها بتدبيره و موقف قريش العنيد من الدعوة في مكة قد انتهى إلى تجميد الدعوة
تقريبا في مكة وما حولها مما جعل بقية العرب تقف موقف التحرز والانتظار , في ارتقاب نتيجة المعركة ومن ثم كان بحث الرسول [صلي الله
عليه وسلم] عن قاعدة أخرى غير مكة , قاعدة تحمي هذه العقيدة وتكفللها الحرية , ويتاح لها فيها أن تخلص من هذا التجميد الذي انتهت إليه
في مكة . حيث تظفر بحرية الدعوة وبحماية المعتنقين لها من الاضطهاد والفتنة . . وهذا في تقديري كان هو السبب الأول والأهم للهجرة .
ولقدسبق الاتجاه إلى يثرب الاتجاه إلى الحبشة , حيث هاجر إليها كثير من المؤمنين الأوائل رجال ذوو عصبيات , لهم من عصبيتهم - في
بيئة قبلية - مايعصمهم من الأذى , ويحميهم من الفتنة ; وهاجرت نساء كذلك من أشرف بيوتات مكة مع احتمال أن تكون الهجرة إلى الحبشة
أحد الاتجاهات المتكررة في البحث عن قاعدة حرة , أو آمنة على الأقل للدعوة الجديدة , كذلك يبدو اتجاه الرسول [صلي الله عليه وسلم] إلى
الطائف محاولة أخرى لإيجاد قاعدة حرة أو آمنةعلى الأقل للدعوة . . وهي محاولة لم تكلل بالنجاح , بعدذلك فتح الله على الرسول [صلي الله
عليه وسلم] وعلى الدعوة من حيث لا يحتسب , فكانت بيعةالعقبةالأولى , ثم بيعة العقبة الثانية . وهما ذواتا صلة قوية بالموضوع الذي نعالجه
في مقدمة هذه السورة , وبالملابسات التي وجدت حول الدعوة في المدينة .
. . ومن ثم فشا الإسلام في المدينة , حتى لم يبق فيها بيت لم يدخله الإسلام . وأخذ المسلمون في مكة يهاجرون إلى المدينة تباعا , تاركين
وراءهم كل شيء , ناجين بعقيدتهم وحدها , حيث لقوا من إخوانهم الذين تبوءوا الداروالإيمان من قبلهم , من الإيثار والإخاء ما لم تعرف له
الإنسانية نظيرا قط . ثم هاجررسول الله [صلي الله عليه وسلم] وصاحبه الصديق . هاجر إلى القاعدة الحرة القوية الآمنة التي بحث عنها من
قبل طويلا . . وقامت الدولة الإسلامية في هذه القاعدة منذ اليوم الأول للهجرةالرسول [صلي الله عليه وسلم]